تعتبر قضية عصمة الأنبياء والمرسلين من أدق وأهم المسائل في العقيدة الإسلامية، حيث يتوقف عليها فهمنا لطبيعة الرسالة، وكمال المصدر التشريعي، وعلاقة النبي بخالقه. وتزداد هذه القضية تعقيداً عندما ترتبط بمسألة سحر الأنبياء أو وقوعهم في بعض الأخطاء البشرية غير المقصودة.
هذا المقال يقدم دراسة تحليلية معمقة لمفهوم العصمة في الفكر الإسلامي، مدعوماً بأدلة القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، مع توضيح الفروقات الجوهرية بين عصمة التبليغ وعصمة السلوك.
المقدمة: ضرورة العصمة وحدودها
العصمة لغة تعني المنع والحفظ. وفي الاصطلاح الشرعي، هي حفظ الله تعالى لأنبيائه من الوقوع في المعاصي والأخطاء التي تخل بالرسالة والتبليغ. تكمن أهمية العصمة في أنها تضمن الثقة الكاملة فيما يبلغه النبي عن الله، فلا يمكن أن يكون مصدر التشريع كاذباً أو ناقصاً.
السؤال الجوهري: هل العصمة مطلقة تشمل كل فعل وسلوك، حتى الأخطاء البشرية العابرة أو السهو؟ هذا هو موضع الخلاف بين المذاهب.
الفصل الأول: أنواع العصمة وحدود الاتفاق السني
يجمع علماء أهل السنة والجماعة على أن العصمة واجبة للأنبياء في خمسة أمور أساسية، وهي محل إجماع:
1. العصمة في التبليغ عن الله (الإجماع المطلق)
هذه هي أهم أنواع العصمة وأساس الرسالة. الأنبياء معصومون من الكذب أو التحريف أو النسيان لما يبلغونه عن ربهم.
الدليل القرآني: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (الحاقة: 44-46).
(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3-4).
هذه الآيات تؤكد أن النبي لا يضل ولا يخطئ في نقل الوحي، وضمانة الله هي التي تحميه من ذلك.
2. العصمة من الكبائر قبل النبوة وبعدها
الأنبياء معصومون من الوقوع في الذنوب الكبيرة (مثل الزنا، والسرقة، والكذب المتعمد، أو الشرك). هذا واجب عقلاً وشرعاً لحفظ مكانة النبوة. فمن ارتكب كبيرة، لا يثق الناس به في تبليغ الرسالة.
3. العصمة من إقرارهم على صغائر الذنوب
يذهب جمهور أهل السنة إلى أن الأنبياء قد تقع منهم صغائر أو مخالفات للأولى (أي ترك الأفضل) سهواً أو اجتهاداً، لكنهم لا يُقرّون عليها. فإذا حدثت، فإن الوحي يتدخل فوراً لتصحيح المسار.
الدليل القرآني (الذي يوضح التصحيح الإلهي): قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في حادثة ابن أم مكتوم: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) (عبس: 1-2). هنا، عاتب الله النبي مباشرة على العبوس، مما يدل على أن العتاب لا يتأخر، وبالتالي لا يُقر النبي على الخطأ.
الفصل الثاني: مسألة السحر على الأنبياء (هل يقع السحر على النبي؟)
تعد هذه المسألة من نقاط الجدل الحادة، خاصة فيما يتعلق بقضية سحر النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
1. قصة سحر النبي محمد صلى الله عليه وسلم
تؤكد السنة النبوية الصحيحة أن سحراً وقع على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن السحر أثر على بدنه وحياته اليومية، لكنه لم يؤثر أبداً على قدرته على التبليغ أو حفظ الوحي.
الدليل الحديثي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سُحِرَ النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان يُخَيَّلُ إليه أنه يَفْعَلُ الشيء وما يَفْعَلُهُ... فدعا ودعا، ثم قال: شعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه..." (متفق عليه في البخاري ومسلم).
تحليل الدليل:
الساحر: لبيد بن الأعصم.
نوع التأثير: كان السحر يؤثر على الجسد والذاكرة الجزئية (يخيل إليه أنه فعل شيئاً وهو لم يفعله)، وكان يُضعفه أو يجعله ينسى بعضاً من شؤون الدنيا.
أهم نقطة: لم يؤثر السحر على الوحي إطلاقاً. لم ينس النبي آية، ولم يخطئ في تبليغ حكم شرعي بسبب هذا السحر.
2. الرد على شبهة الطاعنين (الشبهة الشيعية)
يعترض البعض (وخاصة الذين يقولون بالعصمة المطلقة) على هذا الحديث، مدعين أنه يتعارض مع العصمة. حججهم:
إذا سُحر النبي، فهذا يعني أن النبوة قد تُخترق.
السحر يجعل النبي يشكك في تصرفاته، وهذا يخل بالثقة في رسالته.
الرد الشرعي لأهل السنة:
الفرق بين العصمة الجسمانية والتبليغية: النبي بشر، ويجوز عليه ما يجوز على البشر من أمراض وآلام وسحر وتأثيرات جسدية. السحر هنا أثر على بدنه وليس على دينه وعقله ووحيه.
زيادة اليقين: لو كان السحر يؤثر على التبليغ، لكان الكفار قد نجحوا في سحر النبي لنسيان القرآن. لكن القرآن محفوظ، وهذا دليل على أن السحر لا سلطة له على الرسالة الإلهية.
الأحاديث المتواترة: الحديث ثابت في صحيح البخاري ومسلم، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله، ولا يمكن رد الأحاديث الصحيحة بحجة عقلية أو فهم ضيق للعصمة. العصمة المطلقة من كل سهو ومرض هي غلو في مقام النبي.
الفصل الثالث: آيات قرآنية تشير إلى الأخطاء البشرية للأنبياء
القرآن الكريم نفسه يؤكد أن الأنبياء بشر يمكن أن تقع منهم أخطاء بشرية أو صغائر أو مخالفات للأولى، وهذا لا يخل بعصمتهم من الكبائر أو التبليغ.
1. خطأ آدم عليه السلام
أكل آدم من الشجرة المنهي عنها، وهي خطيئة ليست كبيرة (كفر أو شرك) بل هي مخالفة لأمر إلهي في الجنة.
الدليل القرآني: (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (طه: 121-122).
كلمة "عصى" واضحة، لكن الله اجتباه بعدها وتاب عليه، مما يؤكد أن الخطأ البشري لا يلغي النبوة.
2. خطأ موسى عليه السلام (القتل غير المتعمد)
قتل موسى الرجل المصري بالخطأ قبل بعثته بالنبوة، وشعر بالندم والاستغفار.
الدليل القرآني: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص: 15-16).
موسى اعترف بـ "ظلمت نفسي"، وهو خطأ بشري اجتهادي، لكن الله غفر له.
3. خطأ يونس عليه السلام (العجلة في الرسالة)
ترك يونس قومه قبل أن يأمره الله بذلك غضباً على عدم إيمانهم.
الدليل القرآني: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) (الأنبياء: 87).
يونس نفسه اعترف بالظلم، وهو خطأ ناتج عن اجتهاد بشري وعجلة، وليس عن ذنب كبير يخل بدينه.
الفصل الرابع: الإفراط في العصمة (العصمة المطلقة ومخاطرها)
يرى بعض الفرق الإسلامية، لا سيما الشيعة الإمامية، أن الأنبياء والأئمة معصومون عصمة مطلقة من كل ذنب أو خطأ أو سهو أو نسيان، حتى صغائر الذنوب أو مجرد "خلاف الأولى".
1. الأدلة العقلية مقابل النقلية
يعتمد القائلون بالعصمة المطلقة بشكل كبير على الأدلة العقلية (الحاجة إلى الاقتداء المطلق، وأن أي خطأ يطعن في النبوة).
لكن هذا الرأي يتصادم بشكل مباشر مع:
الآيات الصريحة: التي تصف الأنبياء بالبشر وتذكر استغفارهم (مثل استغفار موسى وآدم ويونس).
السنة الصحيحة: التي أثبتت سهو النبي في الصلاة (كحديث ذي اليدين) وسحره.
العصمة المطلقة تخرج الأنبياء من دائرة البشر: إذا لم ينس النبي أبداً، ولم يسهو، ولم يمرض، ولم يتأثر بالسحر الجسدي، فإن البشر لن يتمكنوا من الاقتداء به. فالقرآن يؤكد:
الدليل القرآني: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ) (الكهف: 110).
موسى خاف (فأوجس في نفسه خيفة موسى).
محمد سهى في الصلاة.
زكريا تعجب من بشارة الحمل بعد الكبر.
هذه الأفعال تؤكد إنسانية الأنبياء، وهي حكمة إلهية لتعليمنا أن الكمال المطلق لله وحده، وأن الاقتداء بهم يتم في الالتزام بالوحي، لا في محاولة محاكاة كمال غير بشري.
2. الاستغفار في حق الأنبياء (هل يدل على الذنب؟)
ورد في القرآن الكريم طلب الاستغفار من الأنبياء (كطلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم الاستغفار).
الدليل القرآني: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا) (هود: 112). (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (محمد: 19).
تفسير أهل السنة: الاستغفار هنا لا يعني ارتكابهم ذنباً كبيراً، بل هو إما:
لذنب الأمة: يطلب المغفرة لذنوب أمته.
لترك الأولى: استغفار من ترك ما هو أفضل أو من النسيان والسهو البشري.
لزيادة المرتبة: الأنبياء يطلبون المغفرة ليرفع الله درجتهم في الجنة.
الفصل الخامس: الرد على شبهات عصمة الأئمة
تتفاقم مشكلة العصمة عندما تمتد لتشمل الأئمة، وهو ما أدى إلى تباعد شاسع في الفكر العقائدي.
العصمة حكر على الأنبياء: يرى أهل السنة أن العصمة (حتى العصمة المحدودة) هي من خصائص الأنبياء والمرسلين فقط، ولا تثبت لأي إنسان آخر بعدهم، بما في ذلك الصحابة أو الأئمة.
الدليل القرآني: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (المائدة: 67).
هذه الآية تربط العصمة بالرسالة والتبليغ، وهي مهمة انتهت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. القول بعصمة الأئمة هو توسيع لدائرة النبوة بصورة غير مباشرة، وهو ما لا دليل عليه لا من القرآن ولا من السنة الصحيحة.
الخاتمة: الموقف الشرعي المتوازن
في نهاية المطاف، الموقف الشرعي المتوازن بخصوص عصمة الأنبياء هو:
العصمة في التبليغ: الأنبياء معصومون عصمة مطلقة من الكذب أو التحريف في نقل الوحي، وهذه هي العصمة الأساسية.
العصمة في السلوك: معصومون من الكبائر والذنوب التي تخل بمروءتهم قبل النبوة وبعدها.
جواز الصغائر والسهو والنسيان: يجوز عليهم السهو والنسيان أو ارتكاب الصغائر عن طريق الخطأ أو الاجتهاد، لكن الله لا يقرهم عليها، بل يتولى تصحيحها فوراً بالوحي.
السحر والمرض: الأنبياء بشر يجوز عليهم ما يجوز على البشر من سحر (يؤثر على الجسد فقط) ومرض وألم، وهذا لا يطعن في نبوتهم، بل يؤكد إنسانيتهم وأنهم قادة يمكن الاقتداء بهم في التعامل مع الابتلاءات.
إن هذا الفهم المتوازن للعصمة يحفظ مكانة النبوة، ويؤكد على كمال الرسالة، ويحافظ في الوقت ذاته على بشرية الأنبياء، لتكون قدوتهم ميسورة وممكنة التحقيق للبشر من بعدهم.
.jpg)
تعليقات
إرسال تعليق
الرجاء عدم التعليق بشكل مسئ أو يخرج عن حدود الأدب والأخلاق العامة