📜 السحر الذي أذهل موسى: تحليل شرعي مفصل لقصة مواجهة السحرة في ضوء القرآن والسنة
تعد قصة موسى عليه السلام مع فرعون والسحرة من أطول القصص وأكثرها تفصيلاً في القرآن الكريم، وهي ليست مجرد حكاية تاريخية، بل هي درس عظيم في الإيمان، واليقين، والفرق بين الإعجاز الإلهي والخداع البشري. إنها تمثل نقطة تحول حاسمة في حياة نبي الله موسى، حيث واجه أعظم قوة زمنية (فرعون) وأعظم قوة شيطانية (السحرة) في عصره.
هذا المقال يستعرض القصة بتحليل شرعي مستفيض، مع التركيز على النصوص القرآنية الدقيقة التي تصف مشاعر موسى واستجابته للأمر الإلهي.
الفصل الأول: المشهد التأسيسي وتحدي فرعون
تبدأ القصة بتكليف موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون، الذي كان يدعي الألوهية ويسيطر على بني إسرائيل. عندما واجه موسى فرعون بالآيات الإلهية (العصا واليد البيضاء)، رفض فرعون، واتهم موسى بالجنون والسحر.
1. تحدي فرعون وطلب الآية (المعجزة)
فرعون، الذي كان يعتمد على قوة السحرة في تثبيت حكمه وإرهاب الناس، لم ير في معجزة موسى سوى محاولة سحرية للتفوق عليه.
الدليل القرآني:
(قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) (طه: 63).
(فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا هذا سحر مبين) (يونس: 76).
طلب فرعون من موسى موعداً محدداً للمناظرة، وكان اختياره ليوم الزينة (يوم العيد) لضمان حشد أكبر عدد من الناس، ليثبت للجميع أن سحره سيتفوق على آيات موسى.
2. حشد السحرة واجتماعهم
جمع فرعون أعظم سحرة الأرض ووعدهم بالمال والمكانة إن هم غلبوا موسى. كانت هذه اللحظة هي ذروة المواجهة بين القوة الإلهية والقوة الشيطانية التي تستخدم الخداع والتمويه.
الدليل القرآني:
(فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وجعلنا الناس مجمعين) (الشعراء: 38-39).
الفصل الثاني: المواجهة الكبرى وأثر السحر على موسى عليه السلام
في يوم الزينة، وقف موسى في مواجهة الجموع والسحرة الذين ألقوا حبالهم وعصيهم، وبدأ السحر بالعمل على أعين الناس.
1. إلقاء السحرة وخداع البصر
لم يكن ما فعله السحرة تحويلاً حقيقياً للمادة (كأن تتحول العصي إلى ثعابين بحد ذاتها)، بل كان سحراً يؤثر على حاسة البصر لدى المشاهدين.
الدليل القرآني:
(قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) (طه: 65-66).
كلمة "يخيل إليه" هنا هي مفتاح فهم طبيعة هذا السحر. إنه تمويه وخداع بصري وذهني (Illusion) وليس إحداثاً حقيقياً للشيء.
2. شعور موسى بالخوف والقلق (تأثير السحر على النبي)
هذه هي النقطة المحورية في القصة التي تؤكد على بشرية الأنبياء (كما ذكرنا في تحليلنا السابق للعناوين). على الرغم من أن موسى نبي ومعه العصا المعجزة، إلا أنه شعر بالخوف والقلق كأي إنسان يرى منظراً كهذا.
الدليل القرآني:
(فأوجس في نفسه خيفة موسى) (طه: 67).
كلمة "أوجس" تعني أنه شعر بشيء من الخوف أو القلق يساور قلبه في هذه اللحظة العصيبة. وهذا الخوف ليس خوفاً من الهزيمة، بل خوف وقلق من عظمة الموقف وتأثير هذا الخداع الهائل على الناس وإيمانهم. هذا الدليل يؤكد أن الأنبياء ليسوا آلات لا مشاعر لها، بل هم بشر يتأثرون بالمحيط والمواقف، وهذا يزيد من صدق نبوتهم وإنسانيتهم.
الأدلة الحديثية والشرح النبوي:
لم يتطرق النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلاً لقصة خوف موسى، ولكن السياق القرآني يكفي لتأكيد أن الأنبياء، وإن كانوا معصومين في التبليغ عن الله، فإنهم يتأثرون عاطفياً وجسدياً كالبشر. إن شعور موسى بالخوف لم ينقص من مكانته، بل زادها، لأنه أظهر أنه نبي ينتصر على الخوف بإرادة الله.
الفصل الثالث: التدخل الإلهي والانتصار الساحق
في تلك اللحظة الحرجة التي شعر فيها موسى بالقلق، جاءه الوحي ليطمئنه ويأمره بالإلقاء.
1. الأمر الإلهي الحاسم
الدليل القرآني:
(قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) (طه: 68-69).
جاء الأمر الإلهي ليؤكد لموسى ثلاث حقائق:
طمأنة: "لا تخف إنك أنت الأعلى".
الفعل المعجز: "وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا".
الحقيقة الشرعية: "إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى". هذا إعلان مبدأ واضح بأن السحر لا يمكن أن ينجح أمام الحق الإلهي.
2. العصا تلتهم السحر
عندما ألقى موسى عصاه، تحولت إلى حية عظيمة ابتلعت كل حبال وعصي السحرة. وهنا يظهر الفرق الجوهري بين المعجزة (التي تغير حقيقة المادة بأمر الله) والسحر (الذي هو مجرد خداع وتمويه بصري).
الدليل القرآني:
(فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) (الأعراف: 117-118).
كلمة "ما يأفكون" تعني ما يزيفون ويكذبون. المعجزة لم تبطل سحراً حقيقياً، بل كشفت زيفه، فبمجرد إلقاء العصا، زال التمويه وعاد كل شيء إلى طبيعته الحقيقية.
الفصل الرابع: استجابة السحرة ونتائج المواجهة
كانت نتيجة المواجهة هي الإيمان الفوري للسحرة، لأنهم كانوا أعلم الناس بالفرق بين السحر والمعجزة.
1. إيمان السحرة وتضحيتهم
أدرك السحرة أن ما حدث لم يكن سحراً بشرياً، بل آية من السماء. هذه المعرفة قادتهم إلى الإيمان الفوري والصادق، متحدين فرعون وتهديده.
الدليل القرآني:
(فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) (الشعراء: 46-48).
وعندما هدد فرعون بقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، ثبتوا على إيمانهم، قائلين:
(قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) (طه: 72).
2. الحكمة من سحر موسى
قصة سحر موسى لم تكن مجرد صراع بين نبي وملك، بل كانت اختباراً إلهياً لأجل حِكم عظيمة:
إظهار صدق المعجزة: لولا أن موسى واجه سحرة محترفين، لقال الناس إنها حيلة بسيطة. المواجهة مع أعظم السحرة أثبتت أن ما جاء به موسى هو قوة إلهية لا تقارن بقدرات البشر.
بيان الفرق بين السحر والنبوة: وضحت القصة الفارق بين التمويه الكاذب (السحر) والحقيقة المطلقة (المعجزة).
تثبيت قلب موسى: أكدت لموسى أنه مهما كان الموقف مخيفاً، فإن النصر سيكون حليفه طالما هو على الحق.
الفصل الخامس: نظرة شرعية على السحر والشعوذة (استطراد في صلب الموضوع)
تؤكد هذه القصة على التحريم المطلق للسحر في الإسلام، وتوضح أن الساحر كافر بما أتى به، كما جاء في قوله تعالى عن السحر:
الدليل القرآني:
(وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) (البقرة: 102).
الأدلة الحديثية على حكم الساحر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر...) (رواه البخاري ومسلم).
فيما يتعلق بالساحر، فقد أفتى عدد من الصحابة (مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان) بقتل الساحر، وهو الحكم السائد في الفقه الإسلامي لمعظم المذاهب.
الخاتمة: اليقين ينتصر على الخداع
تظل قصة سحر موسى عليه السلام مع السحرة منارة تضيء طريق الإيمان. إنها تؤكد أن الحق الإلهي يمحو الباطل مهما بدا قوياً أو ساحراً، وأن أعظم قوة بشرية (السحر) لا تملك شيئاً أمام الإعجاز الإلهي. كما أنها درس بليغ في إنسانية الأنبياء، وأن الخوف الذي اعترى موسى لم يمنعه من إلقاء عصاه والانتصار.
إن هذه القصة تدعو كل مؤمن إلى اليقين المطلق بأن كل قوة خفية في الأرض تنتهي عند أول ظهور للحقيقة الساطعة من عند الله.
.jpg)
تعليقات
إرسال تعليق
الرجاء عدم التعليق بشكل مسئ أو يخرج عن حدود الأدب والأخلاق العامة